ألمانيا- صعود اليمين الشعبوي وتحديات الاستقرار السياسي والاقتصادي

في مشهد سياسي مضطرب، شهدت ألمانيا انتخابات برلمانية مبكرة يوم الأحد الموافق 23 فبراير، جاءت هذه الانتخابات نتيجة لسحب الثقة من حكومة المستشار شولتس في منتصف ديسمبر الفائت، وذلك على إثر خلافات جوهرية بشأن كيفية إدارة الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، والتي تفاقمت جرّاء تداعيات جائحة كوفيد والحرب الروسية الأوكرانية.
أظهرت نتائج الانتخابات تراجعًا ملحوظًا لحزب المستشار الألماني، الحزب الاشتراكي الديمقراطي، حيث هبط إلى المرتبة الثالثة بنسبة 16.41%، بينما تصدر المشهد غريمه التقليدي، التحالف المسيحي، محققًا نسبة 28.52%. المفاجأة الأخرى كانت حلول حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني في المرتبة الثانية بنسبة 20.80%، بالإضافة إلى حصول الحزب اليساري على 8.77% من الأصوات.
الحزب الديمقراطي الحر (FDP)، الذي كان الشرارة التي أدت إلى تفكك الائتلاف الحكومي، لم يتمكن من تجاوز النسبة المطلوبة لدخول البرلمان. الجدير بالذكر أن نسبة المشاركة في الانتخابات بلغت حوالي 82.5% في عموم ألمانيا، مما يعكس الاحتقان السياسي والتنافس الشديد، والآمال المعلقة على هذه الانتخابات.
اليمين الشعبوي: لم يفز، لكنه حقق مكاسب هامة
قد يبدو للوهلة الأولى أن هذه الانتخابات قد حالت دون وقوع ألمانيا في قبضة اليمين الشعبوي، إلا أن تحليلًا أعمق يكشف أن حزب "البديل من أجل ألمانيا" قد حقق تقدمًا ملحوظًا، إذ ضاعف عدد مقاعده في البرلمان ووسع قاعدته الشعبية، ليحصل على 20.80% من أصوات الناخبين، مما يعني أن خُمس الألمان قد منحوا أصواتهم لهذا الحزب.
هذا الأمر يدعو إلى التفكير، فالحزب الذي تأسس عام 2013 لم يحصل سوى على 10.3% من الأصوات في انتخابات 2021، وهذا التوسع في الحضور والتمثيل السياسي والانتخابي يُعد إنجازًا كبيرًا.
على الرغم من أن نتائج الانتخابات الحالية قد أخرت وصول اليمين الشعبوي إلى السلطة، إلا أنها مهدت الطريق أمامه، ورسمت مسارًا قد يوصله إلى السلطة في الانتخابات القادمة، فالأمر يبدو مسألة وقت لا أكثر.
وبالأرقام، فقد زادت حصة حزب البديل من أجل ألمانيا بأكثر من عشر نقاط مقارنة بانتخابات 2021. لذلك، يمكن القول إنه لم يفز بالانتخابات، ولكنه لم يخسر أيضًا، بل حقق مكاسب سياسية تاريخية جعلته ثاني أكبر قوة سياسية في البلاد، ويشهد صعودًا مستمرًا.
المثير للاهتمام أن الحزب الديمقراطي المسيحي بزعامة "ميرتس"، وقبل الانتخابات، تبنى بعضًا من خطاب اليمين الشعبوي في خضم الصراعات الحزبية والسياسية، وصل الأمر إلى حد كسر الأعراف السياسية، حيث وجد الحزب نفسه متوافقًا مع حزب البديل من أجل ألمانيا في البرلمان بشأن قانون إصلاح سياسة الهجرة.
هذا التوجه أثار ردود فعل سلبية من مختلف الأحزاب، بما في ذلك المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، التي انتقدت هذا التوجه علنًا، وكان لانتقادها تأثير على حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، حيث صوت بعض أعضائه مع الرافضين من اليسار وحزب الخضر.
هذا الحدث، الذي كان بمثابة جسر نحو التطبيع مع اليمين الشعبوي، قوبل بالرفض، مما دفع فريدريش ميرتس إلى التأكيد على أن التوافق مع حزب البديل غير ممكن، وهو النهج الذي سيستمر في المرحلة السياسية المقبلة.
تراجع الأحزاب التقليدية وخيارات التحالفات المستقبلية
شهدت أحزاب الائتلاف الحكومي بقيادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي خسائر كبيرة، حيث فقد الحزب الديمقراطي الحر (FDP) حوالي 7.1 نقطة ولم يتمكن من دخول البرلمان.
كما خسر حزب الخضر، الذي تنتمي إليه وزيرة الخارجية الألمانية، حوالي 3 نقاط، بينما مني حزب المستشار أولاف شولتس بأكبر خسارة في تاريخه السياسي والانتخابي، حيث تراجعت حصيلته بحوالي 9.3 نقطة.
أما الحزب الديمقراطي المسيحي (CDU) وشقيقه الأصغر "المسيحي الاجتماعي" البافاري (CSU)، فقد حققا تقدمًا طفيفًا، لكنه لم يتجاوز أربع نقاط عن آخر انتخابات. وبالنظر إلى مسار التقدم والتراجع السياسي، فإن الحزب المحافظ، الذي سيقود ألمانيا في المرحلة المقبلة، لم يتمكن من تعويض خسائره السياسية السابقة، ولم يصل إلى نسبة الثلاثين بالمائة التي كان يطمح إليها زعيمه فريدريش ميرتس، ولكن بالنظر إلى التاريخ السياسي والتحديات الاقتصادية والسياسية التي تتطلب استقرارًا سياسيًا، فإن نسبة 28.52% تعتبر نصرًا انتخابيًا، ولكنه ليس نصرًا سياسيًا كاملًا.
وهذا ما سيجعل الائتلاف الحكومي المقبل أكثر حذرًا، وفي الوقت نفسه أكثر إلحاحًا في إيجاد حلول فعالة للمشاكل الاقتصادية، فبدون ذلك ستضعف القوى التقليدية بشكل أكبر، وتزداد التداعيات السلبية للمشاكل الاقتصادية على المجتمع، مما قد يؤدي إلى وصول اليمين إلى السلطة.
مؤشرات رئيسية رسختها الانتخابات الحالية
- الأحزاب التاريخية في ألمانيا لم تعد تتصدر الانتخابات بنسب تتجاوز 30 و40 بالمائة كما كان الحال قبل عام 2017، وهو العام الذي شارك فيه حزب البديل من أجل ألمانيا (AFD) للمرة الثانية، وحصل على 12 بالمائة من الأصوات. فالأزمات التي تمر بها أوروبا والأزمة الاقتصادية أضعفت القوى التقليدية، سواء كانت في السلطة أو المعارضة.
- صعود اليمين الشعبوي يقوض الأحزاب الديمقراطية الأخرى، كما أن الاضطرابات السياسية والاقتصادية في أوروبا تغذي الاتجاه المجتمعي نحو اختيار أقصى اليمين. بالإضافة إلى ذلك، يشهد المناخ السياسي الأوروبي والغربي صعودًا متزايدًا للأحزاب الشعبوية، كما رأينا في حالة ترامب، وهذا يخلق موجة يمينية تثير المخاوف بشأن الهجرة وإغلاق الحدود والاتجاه نحو الانعزال. أوروبيًا، يمثل ذلك تهديدًا للاتحاد الأوروبي، ولهذا سيواجه المستشار القادم تحديًا في تمرير رؤيته لموضوع الهجرة، والتي لا تختلف كثيرًا عن مواقف اليمين، مما يخلق توترًا مع دول الاتحاد الأوروبي.
- ترسيخ حقيقة ثابتة في المشهد السياسي الألماني والأوروبي، وهي الحاجة إلى تشكيل ائتلاف حكومي من أكثر من حزب. والنتائج التي حققتها الأحزاب تجعل الحزبين الديمقراطي المسيحي والاشتراكي الديمقراطي الأقرب إلى تشكيل حكومة موحدة، مع إمكانية محدودة لمشاركة حزب الخضر، ولكن ستواجه ذلك تحديات كبيرة.
التحديات والرهانات السياسية الحاسمة
في ظل المناخ السياسي الأوروبي والدولي المتوتر، تُعد الانتخابات الأخيرة بمثابة اختبار حقيقي لاستقرار النموذج الألماني وخياراته السياسية، وقدرته على الحفاظ على التعددية في المدى المتوسط. فمضاعفة حزب البديل من أجل ألمانيا لتمثيله في البرلمان، وتحوله إلى ثاني أكبر قوة سياسية، يمثل أكبر تحد يواجهه النموذج السياسي الألماني منذ توحيد الألمانيتين، خاصة مع استثمار الحزب في قضايا الهوية التي تثير الصدام المجتمعي، وإعادة إحياء خطابات شمولية تهدد الديمقراطية والتعددية.
سيكون الائتلاف الحكومي المقبل مطالبًا بتهدئة التوتر الذي يزرع الخوف في المجتمع، فالخوف قد يؤدي إلى اختيارات غير عقلانية في السياسة، وتحويل المشاكل الاقتصادية والسياسية إلى قضايا تتعلق بالهجرة والمهاجرين.
نحن أمام حالة تتداخل فيها الجوانب الثقافية والسياسية والاقتصادية، وهذا قد يشكل خطرًا على مستقبل النموذج الألماني إذا لم يتم ترشيد النقاش العام. وهذا يتطلب بناء وعي لدى الأطراف المتضررة من صعود اليمين الشعبوي، ومن التهديدات التي يمكن أن تؤثر على التعددية.
هنا يجب الإشارة إلى المكون المسلم والمهاجرين بشكل عام، الذين يحتاجون إلى بناء خطاب يفكك الوضع الراهن ويخلق رؤية لا تقتصر على ردود الفعل، بل تساهم في إثراء الفضاء العام. كما يجب التخلي عن عقلية الهجرة المرتبطة بالعمل فقط، والانتقال إلى التأثير الفاعل من خلال الديناميات السياسية والثقافية والمجتمعية، أي خلق وعي ثقافي عميق ببنية المجتمع واختياراته، والمسارات التي يمر بها المشهد برمته، وهذا ما يتيحه النسق التعددي.
أما الجانب الآخر من الاختبار، فيرتبط بالقدرة على تجاوز الركود الاقتصادي في سياق التنافس الحاد مع الصين، والمشاكل التي قد يثيرها ترامب مع شركائه الأوروبيين، فالمشاكل الاقتصادية هي المحرك الرئيسي للاستقطاب السياسي والاجتماعي.
أما البعد الثالث، فيتعلق بالرئيس الأمريكي، فترامب يمثل نقطة خلاف رئيسية في التجارة والأمن الأوروبي والوضع الجيوسياسي في أوروبا، خاصة في أوكرانيا، وهذا يخلق تناقضًا عميقًا مع حلفائه، ويحمل تحولًا كبيرًا في النظام الدولي.
ختامًا: هذه المسارات مجتمعة، ستكون محور اهتمام سياسي عميق في ألمانيا خلال المرحلة المقبلة، لأنها مركز الثقل في أوروبا، وأحد الأطراف المؤثرة في سياسات الاتحاد الأوروبي.
لذلك، يدرك الساسة الألمان أهمية الانتخابات الحالية في إعادة الاقتصاد إلى مسار النمو السريع، للحفاظ على قوة الاقتصاد الألماني واستقرار النموذج بطبيعته، ومنع الهيمنة الفعلية لليمين الشعبوي في حالة الفشل.